قصة نجاح في حماية الطيور – بقلم البروفسور غسان جرادي
إن ما يتعلمه الإنسان في حياته هو رصيد ينمو ويتطور ويتعاظم إذا ما تم استعماله في مكانه الصحيح وفي الوقت المناسب. وفيما يتعلق بالطيور فإن معرفة الأوروبيين بها سبقتنا في الشرق الأوسط نحو 50 عاماً ولكن الأمريكيون سبقوا الأوروبيين أيضاً بنحو 50 عاماً وهذا كلام جاء على لسان أكبر وأهم مرجعية في علم الطيور في فرنسا ، جاك بلوندل. هذا هو قدرنا إذاً أن نظل نتعلم من الآخرين وهو أمر ليس عيباً على الإطلاق بل طريقة سليمة للتطور.
فبدون التعلم يبقى المرء خائفاً لأن الإنسان بطبعه يخاف مما يجهله. وعند بدء إعلان المحميات في لبنان كان هنالك رفض للمحميات من قبل السواد الأعظم من اللبنانيين وربما أيضاً في العالم العربي وبعض الدول الأجنبية. أما اليوم وبعد خوض التجربة ومعايشتها والانتفاع بفوائدها أصبحت الجمعيات الأهلية في كل مكان تسعى لإعلان محمية هنا أو هناك. والجدير بالذكر أن جمعية حماية الطبيعة وهي الجمعية الأهلية الأقدم في لبنان وضعت خبرتها في بعض المحميات ونجحت في أعمال المحافظة وتمرست بها بعد أن وجدت أن المحافظة لا تتم سوى على أيدي المجتمعات الأهلية المرتبطة مباشرة بالمحميات الطبيعية. ولكن لهذه المجتمعات مطالب قد لا تسمح بها المحميات الطبيعية بينما تسمح بها محميات المحيط الحيوي التابعة لبرنامج الماب في اليونسكو كالقيام بأعمال تقليدية تتولى على سبيل المثال توزيع المياه وتنظيم المشاركة بالفوائد التي تقدمها الموارد الطبيعية وتنظيم الصيد البري والبحري بين الناس في منطقة التنمية الواقعة على أطراف المنطقة العازلة المحيطة بمنطقة النواة في محميات المحيط الحيوي. ولكن برنامج الماب لم يدخل في تفاصيل مناطق التنمية كما كانت تفعل الحمى التاريخية في نظام الحمى الذي أعادت إحياءه جمعية حماية الطبيعة في لبنان كونه الأكثر تناسباً مع عادات وتقاليد المجتمعات المحلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ثم قامت الجمعية باختباره في حمى عنجر وتطويره من أجل حماية النوع الوحيد من الطيور المهددة بخطر الانقراض في العالم في هذه الحمى ومن أجل تنظيم الاستهلاك الرشيد للمياه الوفيرة في هذه الحمى ومن أجل منع الصيد في المناطق الهامة للطيور فيها والسماح به بعيدا عنها نسبياً مع التشديد على أن يكون الصيد مسؤولاً أي متوافقاً مع قانون الصيد ومستداماً أي أنه لا يؤدي إلى تعريض أي نوع للتدهور والانقراض.
إن التجربة الناجحة هذه أقنعت الاتحاد العالمي لصون الطبيعة في العام 2012 بتبني نظام الحمى، في المذكرة 122، كنوع من الأنظمة التي تعتمد على الإدارة بواسطة المجتمع المحلي من خلال مقاربة شاملة تقوم بتقوية المعرفة المحلية والتقليدية والثقافية والتراثية بالإضافة إلى المحافظة على الموارد الطبيعية وتحسين مستوى المعيشة. في المقابل ونتيجة للنجاح الذي تحقق في حمى عنجر كفرزبد، تهافتت البلديات طالبة تطبيق نظام الحمى على أراضيها. فكان انشاء حمى عندقت والمنجز والمعبور الأبيض وشربين ورأس بعلبك والفاكهة وجبيل والعاقورة وروم وقيتولي وخربة قنافار وعين زبدة والقرعون وعين إبل، بالإضافة طبعا إلى حمى عنجر/كفرزبد. أي تقريباً نفس عدد المحميات الطبيعية المعلنة في لبنان مع فارق أن المحميات الطبيعية تتلقى معونات ثابتة من الدولة بينما الحمى تعيش على ما تنتجه أيدي المجتمع المحلي بطريقة في شكل مميز من أشكال الاستدامة. إنها مهمة نبيلة تقوم بها جمعية المحافظة على الطبيعة في لبنان من أجل دفع المجتمعات المحلية للإبداع والابتكار في إنتاج كل ما هو صديق للبيئة والإنسان واستدامة الأنواع. بل أن جمعية حماية الطبيعة قامت بتنمية الوعي لدى مختلف الفئات الأمر الذي جعل البعض في الجمعيات الأخرى ينهل من معلومات التوعية المتوفرة لدى جمعية حماية الطبيعة لكي ينفذها في أماكن أخرى وهذا دليل على النجاح. واستخدمت جمعية حماية الطبيعة طرقاً علمية ومنطقية لتحديد الأشخاص في كل حمى من المهتمين بحب الحياة البرية والمحافظة على الموارد الطبيعية فأنشت مجموعات أسمتهم حماة الحمى يعملون بالتنسيق فيما بينهم على مواضيع عدة ويشاركون في دورات تدريبية تنمي قدراتهم على حماية التنوع البيولوجي وتطوير السياحة البيئية وما تتطلبه من بنية تحتية وخدمات.
وفي عصر يقوم الناس فيه بقتل الطيور بلا هوادة سواء في الدول التي تدعي بأن ليس فيها قتل عشوائي للطيور أو في الدول التي تصرح عن أعمال القتل اللاقانوني فيها بغية السعي لإصلاح الوضع، وفي زمن تبين فيه أن الصيد قدر مفروض على الدول، الأمر الذي دفع منظمة الـبيردلايف انترناشيونال بعقد ورشة عالمية في ماليزيا عن الطيور بما في ذلك الصيد برئاسة جو سلطانا من مالطا في العام 1999 نتج عنها استراتيجية البيردلايف للعام 2000، صار لزاماً على الجميع العمل لتنظيم الصيد وتعديل قوانينه لأجل الاستدامة وحماية الأنواع المعرضة لخطر الإنقراض. ولقد رأت منظمة البيردلايف أن أحدى الأخطار الهامة على الطيور تتمثل بالقتل غير المشروع لها وهذا أمر يعنى مباشرة بتنظيم الصيد ووضع الآلية المناسبة لتطبيق القانون. لذا شاركت جمعية حماية الطبيعة بتحديث قانون الصيد منذ العام 1997 وبوضع قراراته التطبيقية منذ العام 2010، وبردع المخالفين لقانون الصيد والإدعاء عليهم لدى وزارة البيئة. ثم وجدت الجمعية في اجتماعات المجلس الأعلى للصيد البري أن هنالك صعوبة بفتح باب الصيد المقونن في ظل الظرف الأمنية السائدة وفي ظل عدم توفر عديد من قوى الأمن الداخلي التي أناط بها القانون تطبيقه. فلجأت إلى اقتراح تطبيق قانون الصيد على الأراضي المشاع العائدة للبلديات وحصره بها كي يتم التمكن من مراقبته والتأكد من تطبيقه حسب القانون، على أن تساعد البلديات في المراقبة وإبلاغ قوى الأمن الداخلي عن التجاوزات.
وريثما يطبق هذا الاقتراح الذي يلاقي يوماً بعد يوم استحساناً من الصيادين والبيئيين على السواء، تقوم مجموعات حماة الحمى بمنع الصيد على أراضيها إلى درجة أن الطيور صارت تلجأ إلى هذه الحمى هرباً من بنادق القواصين الذين لا يأبهون بالضرر الناتج عن أفعالهم. بل أن بعض حماة الحمى الذين تعمقوا في حب الطبيعة أصبحوا يقومون بأعمال إنسانية جلية حيث يسارعون إلى جمع الطيور التي جرحتها بنادق الخرطوش والرصاص وعرضها على أطباء بيطريين وإجراء العلاج اللازم لها بغية إعادة إطلاق سراحها ضمن موسم الهجرة أو في أقرب موسم هجرة. وفي حال عدم تمكنها من الطيران ثانية فإنهم يقدمونها إلى مراكز التوعية البيئية التي تهتم بتربيتها. كل ذلك يتم بإرادة محلية غير مصطنعة يكللها عشق الطبيعة الذي ربته في نفوسهم جمعية حماية الطبيعة.
* البروفسور في علم الطيور البرية وبيئتها الدكتور غسان جرادي هو المستشار العلمي لجمعية حماية الطبيعة في لبنان