بقلم راغد حداد – رئيس تحرير مجلة الحمى
كفرمتى بلدة جميلة في قضاء عاليه، محافظة جبل لبنان. يعني اسمها بالسريانية “قرية متى”، ويعود تاريخها الموثّق إلى نحو ستة قرون، لكنها كانت مأهولة منذ أكثر من ألفي عام، بدليل وجود نواويس فينيقية ورومانية في ناحيتها الغربية. تحيط بها غابات الصنوبر وحقول الزيتون، وتتمتع بموقع جغرافي رائع، إذ تطلّ على كامل منطقة الشوف، من غابات الأرز إلى الساحل والبحر، ويعبر واديها نهر الدامور.
مناخ كفرمتى معتدل صيفًا وشتاءً، حيث تشرق عليها الشمس طيلة النهار، وتحميها هضبة “العريض” من الرياح الشمالية. تضم معالم طبيعية وتاريخية متميزة جعلتها مقصدًا للسياحة الجبلية ورياضة المشي في الطبيعة. وهي تشتهر بزراعة الزيتون والعنب والحمضيات، وتنتج تربتها الخصبة معظم أنواع الفواكه والخضروات. ويغلب عليها الغطاء الأخضر، إذ تشكل الأراضي الحرجية نحو 50% من مساحتها، والأراضي الزراعية نحو 20%، وتتميز بجُلولها الجميلة التي تعود إلى مئات السنين.
في عام 2019، أقرّ المجلس البلدي في كفرمتى إقامة حِمى في مشاع البلدة، بالتعاون مع جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL)، بهدف تنظيم الاستخدامات المستدامة للمنطقة والحفاظ على مواردها الطبيعية. ويضمّ الحمى حرج العريض، الذي تم مؤخرًا تنظيفه وتقليم أشجاره وفتح مسارات للمشي وقواطع للنار لحمايته.
كفرمتى ليست مجرد بلدة جبلية جميلة، بل هي نموذج حي للانسجام بين الطبيعة والتاريخ والسياحة المستدامة. من خلال الحفاظ على تراثها الزراعي والغابات والتنوع البيولوجي، يمكن أن تبقى كفرمتى وجهة سياحية بارزة وبيئة طبيعية مزدهرة للأجيال القادمة.
الزراعة في كفرمتى
تتمتع كفرمتى بميزة زراعية فريدة، إذ تتراوح ارتفاعات أراضيها بين 150 و750 مترًا فوق سطح البحر، مما يسمح بزراعة مجموعة متنوعة من المحاصيل، من الزيتون والعنب والخروب والحمضيات وأشجار الفاكهة إلى جميع أنواع الخضروات المحلية.
في الماضي، كان القرويون يعتمدون على الزراعة كمصدر رئيسي للرزق، لا سيما إنتاج الزيتون وزيت الزيتون. وكانوا شبه مكتفين ذاتيًا، يصحّ فيهم المثل القائل: “فلاح مكفي، سلطان مخفي”. وكان معظم سكان البلدة يمتلكون أراضي خصبة وحقول زيتون. إلا أنه خلال العقود الماضية، تراجع النشاط الزراعي، وتم إهمال الحقول والبساتين، حيث غادر العديد من الأهالي إلى المدن أو هاجروا إلى الخارج.
يمكن للتنمية الزراعية أن تساهم في إبقاء السكان في قريتهم، وإعادة مئات العائلات التي غادرت، وتوفير فرص عمل للشباب، حيث يمكنهم تأمين حياة كريمة من خلال العمل في الأرض المعطاءة. وتتمتع كفرمتى بإمكانيات كبيرة لتصبح شبه مكتفية ذاتيًا بالمنتجات الزراعية، ومركزًا للصناعات الغذائية. ولا شك أن تطوير هذا القطاع من شأنه أن يحسّن مستوى المعيشة لما يقارب 1000 أسرة في البلدة.
السياحة المستدامة في كفرمتى
تحتل كفرمتى منذ سنوات مكانة متميزة على خريطة السياحة الريفية والبيئية في لبنان، حيث تعمل البلدية بالتعاون مع المجتمع المحلي على تطوير هذا القطاع. وتتمتع البلدة بإمكانات كبيرة لتنمية السياحة المستدامة، وجذب السياح والزوار لاستكشاف معالمها الطبيعية والتراثية والتاريخية، إضافة إلى ممارسة أنشطة مثل:
- ركوب الدراجات الجبلية
- السباحة في المسابح الجبلية
- رياضة المشي في الطبيعة (هايكنغ)
- التخييم وقطف الزيتون
- حضور مهرجان الزيتون ومعرض “من زمان”
أبرز المعالم السياحية في كفرمتى
🔹 معمل الحرير: بني حوالي عام 1860، وكان من أكبر معامل الحرير في لبنان، وكان يصدّر إنتاجه إلى أوروبا. توقف عن العمل في ستينيات القرن الماضي، وتعرض لأضرار جسيمة خلال فترة الأحداث، لكنه لا يزال معلمًا يستحق الترميم والاهتمام من قبل الجهات المختصة.
🔹 الفِزْر: تشكّل جيولوجي مذهل يتكون من جدارين صخريين شاهقين، يتوسطهما معبر يؤدي إلى سهل جميل ومطاحن أثرية، وهو من المواقع المفضلة لهواة المشي في الطبيعة.
🔹 النواويس: قبور حجرية تعود إلى العصر الفينيقي والروماني، منتشرة في مواقع متفرقة من البلدة، خصوصًا في منطقة قبر حبنجر.
🔹 حرج العريض: يشرف من هضبة رائعة على البلدة، ويطل على كامل منطقة الشوف، من البحر إلى محمية أرز الشوف.
🔹 الزيتون المعمّر: تضم كفرمتى حقول زيتون قديمة يعود عمر بعض أشجارها إلى أكثر من ألف عام، ولا تزال تنتج زيت الزيتون عالي الجودة.
🔹 نهر الدامور: يعبر وادي كفرمتى، وما زالت قرب ضفافه مطاحن قديمة كان السكان يستخدمونها لطحن الحبوب.
🔹 المسابح والشاليهات والمطاعم: أصبحت كفرمتى مقصدًا لمحبي السباحة الجبلية والمطاعم التي تقدم الأطباق التقليدية.
🔹 رياضة الهايكنغ: تم شق دربين رئيسيين للمشي في الطبيعة، أحدهما في حرج العريض (4 كيلومترات)، والثاني على ضفة النهر (6 كيلومترات).
🔹 نادي الأدهم للفروسية: يوفر فرصة لممارسة رياضة ركوب الخيل والتدريب على الفروسية.
🔹 الكنائس: تضم البلدة كنيستي القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس ومار الياس للموارنة، ويؤمّهما المصلون في الأعياد والمناسبات الدينية.
🔹 مهرجانات سنوية: تحتضن كفرمتى مهرجان الزيتون ومعرض “من زمان” وسهرات عيد السيدة وعيد مار الياس.
الحياة البرية في كفرمتى
تتميّز كفرمتى بتنوع نباتي فريد يشمل أشجار السنديان والصنوبر البري والعرعر والبطم، إضافة إلى النباتات العطرية والطبية مثل الزعتر والخزامى والمريمية. كما تنتشر على ضفاف نهر الدامور أشجار الدلب والصفصاف والنعناع.
أما الحياة البرية، فتشمل الثدييات مثل الأرنب البري، النيص، الثعلب، وابن آوى، إلى جانب الزواحف كالسلاحف والأفاعي. وتُعد كفرمتى ممرًا مهمًا للطيور المهاجرة، حيث تم تسجيل 157 نوعًا من أصل 404 أنواع موجودة في لبنان. إلا أن الصيد العشوائي لا يزال يشكل تهديدًا لهذه الطيور، مما يستدعي تنظيم أنشطة الصيد لحمايتها.
الطبسون المهدد بالانقراض
قبل بضع سنوات، قدّمت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) بلاغًا إلى وزير البيئة حول حوادث صيد جائر لحيوان الطبسون، وهو من الثدييات الصغيرة النادرة التي تعيش ضمن مجموعات، ويعدّ من أقارب الفيل من الناحية التشريحية. يعد الطبسون جزءًا أساسيًا من التوازن البيئي، إذ يساهم في تجديد الغابات من خلال تغذيته على النباتات. لكن أعداده تراجعت بشكل خطير في لبنان بسبب الصيد الجائر، وهو يحظى بحماية خاصة في محميات مثل محمية أرز الشوف وجبل موسى.